أرقام
لا أفهم هذا العالم العبثي
المجرد من الإنسانية بقدر ما يفيض بالبشر!
لم أكن يوماً ضليعة في
الحساب..
في صغري كنت أعدّ المكعبات
و الفواكه و الأعواد الخشبية إلى أن تعلّمت العد
.. كبرت قليلا و أصبحت أعدّ
النقود التي جمعتها عيديّة و أخبؤ منها لشراء هديّة عيد الأم لأمي..
كبرت أكثر و أكثر و تمنّيت لو أنّي لم أتعلّم العد مطلقاً
و كبر أيضاً العالم من
حولي.
بل شاخ و هرم و فقد الإحساس
في أطرافه الأربعة!!
أضحى ينزف بصمت محرق..
أبكم هو، و صامتون نحن..
و للأسف كبرت أنا أيضا و
بدأت أراه على حقيقته المرّة .. لتصبح الأرقام كابوسا و هاجساً مخيفا
قتل أربعون هنا و أصيب
مئتان هناك .. استشهد قتل اغتضب ذبح .. لا أفضلية لمسمى على آخر فالموت واحد.. و
القتل واحد سواء أكان المقتول جانيا أم مجنيّا عليه
كلنا سواسية مع هذا الأسود
القاتم .. كلنا سواسية تحت التراب
و كلنا سواسية في ثوب
الحداد الأسود
أرقام أرقام أرقام
تحول البشر إلى أرقام!!
فـتبلّد الإحساس
الإنسان رقم .. رقم في
الدوائر الرسمية و الحكومية.. في السجون و المعتقلات.. لولادته رقم.. على جواز
سفره رقم .. و على كفنه رقم!! مجرد رقم من
بين أرقام لا حصر لها
أعلم أن لن ينقصنا في يوم
بشر.. فكلّ يوم يولد بعدد من يغادر و أكثر
إلّا أن ما ينقصنا هو
الإنسانية ...
كثير من البشر و القليل
القليل القليل من الإنسانية
كثير من قصائد الغزل و
أغاني الحب و الأفلام الرومانسية و القليل القليل القليل .. من "الحب"
لم أتصوّر يوماً أن يتحول
الإنسان إلى رقم على شاشات الأخبار
يستعصي عليّ العد
بل إني أرفض العدّ
و أرفض كذلك أن أهلّل للموت! يا ويح ابن آدم
يرقص فرحاً بالموت!! ويل لبشرية تحتفي بالموت على قساوته و بشاعته و الدمار الذي
يخلّفه!!
لربما أرقص فرحا بالموت
المكلل لحياة "مكتملة"
الموت الذي يختتم مسيرة
" الإنسان" و كفاحه على هذه الأرض
الموت الذي قدّسه
"كيروساوا" في فيلمه الشهير "أحلام"
أما موت الحروب و الإرهاب و
الدمار و الجوع و الفقر و الظلم فيا ويلاه لمن يحتفل به!! ألف يا ويلاه
الموت الذي يتساوى فيه المقتول
و القاتل.. المقموع و القامع و المظلوم و الظالم
الموت الذي يسلخ عنّا كلّ
يومٍ إنسانيّتنا أكثر فأكثر
هو موت قاسٍ و ظالم و لصّ!!
نعم لصّ، لأنه يسرق "الإنسان" من غمرة الحياة التي تشبث بها بأطرافه و
انتزعت منه انتزاعاً مدمياً
نعم
على هذه الأرض ما يستحق
الحياة
و ما يستحق النضال
و ما يستحق الحب
ألم يؤن الأوان لأن نعيد
اكتشاف مواطن الحب في ذواتنا ؟
و أن ننزع تلك الغشاوة التي
تعصب عيوننا
أن نبكي
و نصرخ
و نتألّم
أن نعيد الحياة إلى أطراف
عالمنا المتهالك قبل أن نخسره إلى الأبد و نخسر ذواتنا معه
أن نعلن ثورة جديدة و
نسميها "ثورة الحب" و نستعيد هذا الحب المدفون عميقا في ذواتنا.. و
لنكتشف أننا فعلاً بشر من لحم و دم و جزء من نسيج جسد بشري متلاحم.. و لسنا مجرّد
"أرقام" تذهب ليجيء غيرها
No comments:
Post a Comment